ظهرتْ في بداية الشارع تدفع عربتها الصغيرة المحملة بالبسكويت والسجائر واللبان متجهة إلى محطة القطار حيث تقف ببضاعتها القليلة هناك بحثا عن الرزق والذي يكون هو أيضا قليلا في الغالب
الوقت هو الصباح الباكر بالطبع وهو الفرصة المثالية لتلك البائسة في الحصول على رزقها حيث أن أغلب زبائنها من تلاميذ المدارس
تابعتُها ببصري وهي تجر العربة حيناً وترتكن إلى إحدى السيارات الواقفة بالشارع لتستريح حيناً آخر
ثم تعاود سيرها بعد ذلك حتى تنعطف في شارع جانبي
لم تكن تلك هي أول مرة أرى هذا المشهد فيها فهو يتكرر منذ أكثر من خمسة عشر عاما حتى أصبحت رؤيته شيئا روتينياً عادياً
*******
في اليوم التالي خرجت إلى الشرفة صباحا لأنعم برؤية تلاميذ المدارس وهم في أزيائهم الجميلة متجهين إلى ميادين العلم
غريب هذا..
نظرتُ في ساعتي لأجد أن الوقت قد تأخر ولم تظهر السيدة العجوز كما هو الحال يومياً
لم أهتم كثيراً وهززت كتفي ثم غادرت الشرفة
في اليوم التالي كذلك تكرر ما حدث في اليوم السابق ولم تظهر العجوز
لمدة أسبوع كانت عادتي اليومية هي الوقوف بالشرفة صباحاً وانتظار العجوز
إحساس جارف بالحنين لتلك العجوز يغمرني
لا أدري لهذا سبباً
ربما هو التعود على مرآها منذ زمن بعيد
إنه شعور لا يمكن وصفه نحو إنسانة لا يربطني بها أي علاقة سوى أني اعتدت رؤيتها يوميا
لم أبادلها حرفاً أو أشتري منها شيئا يوماً ما
في نهاية الأسبوع وجدتني أرتدي ثيابي صباحاً وأغادر المنزل مسرعاً إلى محطة القطار لعلّي أراها وعربتها الصغيرة
ولكني لم أجدها حيث اعتادت الجلوس فسارعتُ الخطى نحو أحد الواقفين وسألته عنها
ماذا ؟ ألم تعرف بعد؟ -
سألته مدهوشا: ماهذا الذي لم أعرفه؟
نظر لي بأسى قائلا: لقد ماتت منذ أربعة أيام
نظرت له قليلاً غير مصدق ثم استدرت عائداً للمنزل و
ما هذا ؟..
هل هي...؟ ....
إنها بالفعل دموع
دموع غزيرة لم أذرف مثلها من قبل
دخلت إلى المنزل وحاولت أن أهدأ
اندهشتُ لدموعي الكثيرة التي انهمرت حزناً على إنسانة لم أحاول التعرف عليها
انني حتى لم أتبادل معها حرفاً أو اشتري منها شيئاً
حاولت البحث عن سبب مقنع لدموعي فلم أجد
إنها نفسية الإنسان وكيميائه الذاتية المعقدة
سنظل أبدا عاجزين عن فهم ما يدور في ذلك العالم الكبير داخلنا